بقلم: سعيد بن عياد
لا تزال كبريات العواصم والمدن في أوروبا، مسرحا للمظاهرات والمسيرات المناهضة لحرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، منذ أكثر من خمسة أشهر، وتبعث برسالة عساها تستنهض الضمير الإنساني لوقف المذابح وإنهاء العدوان النازي البربري، بحق شعب أعزل ومحاصر منذ سنوات يواجه لوحده آلة الدمار الصهيونية المدعومة بالأسلحة الأمريكية، ومن بلدان أخرى تدعي الديمقراطية وتتشدق بحقوق الإنسان ولا تعير للأطفال والنساء في غزة أدنى شعور بالأسى أو التأثر، بل لا تسمع دوائر اتخاذ القرار في واشنطن ولندن وباريس وبروكسل لصرخات شعوبها ومطالبهم بإنهاء الإبادة المفتوحة في غزة، ولجم قيادة الكيان الصهيوني الذي تجاوز كل الخطوط، وداس على القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني ولا يعير محكمة العدل الدولية ولا الجنائية الدولية أدنى اعتبار، لكونه يستفيد من دعم ومساندة لوبيات لها نفوذ مالي ودبلوماسي وإعلامي، انفضحت حقيقته أمام الشعوب قاطبة، فلم تعد تصدق تصريحات معسولة ولا مواقف مغشوشة مثل إقامة ميناء بحري عائم بسواحل غزة، لتقديم المساعدات الإنسانية وإلقاء طرود غذائية بالمظلات، تحولت في كثير من الأحيان إلى قنابل قاتلة للمستضعفين، بل تصطاد المدنيين الفلسطينيين لتنقض عليهم دبابات العدو الصهيوني أمام عالم خاضع لسلطة السكوت واللامبالاة، وانفردت به الآلة الدعائية الصهيو- أمريكية التي أصبحت تشكل خطرا على السلم والأمن الدوليين وعلى مستقبل شعوب العالم.
الميناء العائم.. جسر عبور لاحتلال جديد:
بعد الإبادة بالتقتيل الجماعي والتدمير الممنهج، بأسلحة أمريكية ودعم استخباراتي غربي واسع النطاق، يعيش السكان في قطاع غزة منذ أسابيع تحت وطأة جريمة التجويع المبرمج أمام غلق المعابر، خاصة معبر رفح من الجانب المصري ما يشكل جريمة بشعة لا توصف، تقف أمامها وأمام تداعياتها أطراف إقليمية لا تحرك ساكنا، ما عدا إطلاق تصريحات خاوية، ما يثير تساؤلات جوهرية عن الغاية من ذلك، والأهداف المسطرة، بل يضعها التاريخ في زاوية المتواطئ والمشارك في هذه المذابح، كونها لم تتحرك خارج اعتبارات الانتماء لإنقاذ شعب في حالة خطر اندثار، وترك أطفال ونساء عرضة للجوع، ولم تستعمل الأدوات القانونية الدولية لإسعاف ونجدة شعب جار بتمرير الغذاء والماء والدواء، وعدم ترك دولة الكيان الصهيوني المحتلة تعبث بالأبرياء، وتستبيح الأرض والانسان، بينما بادرت دولة جنوب إفريقيا ودول أخرى بالتحرك على مستوى محكمة العدل الدولية وجلبت الكيان إلى قفص المتهم أمام العالم برمته.
إعلام غربي كاذب ومتواطئ مع القتلة:
ولو أن القرار القضائي الدولي لم يحقق المطلوب، لكن على الأقل تم تقديم الكيان الإجرامي أمام العالم بوجهه الحقيقي، فأصبح منبوذا ومعزولا أكثر فأكثر، باعتباره كيانا عنصريا لا يعترف بالشرعية الدولية، متمترسا وراء تغطية إعلامية عالمية متواطئة من قنوات وجرائد ومنصات هي شريكة في الإبادة، إعلام كاذب متواطئ مع القتلة كما يتم وصفه في عواصم كبرى، منها باريس وبلا شك سمعها الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي تنكر لماضي دولته بشأن القضية الفلسطينية. وأمام تعنت الكيان الصهيوني وعدم التزامه بالقانون الدولي بلغ الأمر بوزيرة خارجية جنوب إفريقيا، وهي امرأة من معدن إفريقي خالص، كله جرأة وصدق وإنسانية، درجة المطالب من الدول المؤمنة بحقوق الإنسان والوقوف في وجه الإبادة، التوجه بقوة عسكرية إلى معبر رفح لمرافقة قوافل الشاحنات باتجاه غزة وحمايتها عسكريا، بعد أن عجز القانون الدولي وتعطلت آليات الأمم المتحدة.
الفيتو الأمريكي.. خنجر يطعن الانسانية:
ومن بين هذه الميكانيزمات، بعد استهداف منظمة غوث اللاجئين ومحاولة تحييدها من الميدان، مجلس الأمن الدولي الذي يوجد في حالة اختطاف، بسبب حق الفيتو الذي يراد به باطل تستعمله الولايات المتحدة الأمريكية في وجه أي قرار يدعو لوقف إطلاق النار، وحماية الشعب الفلسطيني في غزة، وفي آخر مرة لم ترد مندوبة أمريكا ومن ورائها أصحاب القرار في البيت الأبيض -وهو أسود اللون في نظر الإنسانية- الإصغاء لأعضاء المجلس الذين أيدوا مشروع قرار جزائري متوازن وإنساني وشرعي، لم تعارضه حتى بريطانيا واستعملت الفيتو بشكل عنيف كمن يطعن المجموعة الدولية في الظهر، بينما تضاعف من تصريحات مثل حل الدولتين وتقديم المساعدات وغيرها من التمويهات، فيما يستفرد الكيان الصهيوني بالعزل وينكل بالأطفال والنساء والشباب تقتيلا واغتيالا وتجويعا، إلى درجة أن جنوده الإرهابيين ينشرون صور لجرائمهم البشعة، باعترافات صريحة كما هي صورة اغتيال جندي صهيوني فلسطينيا مسنا أصم وأبكم ببيته، ولم يتحرك دعاة حقوق الإنسان.
وقد تابع العالم مرافعة المندوب الجزائري، الذي تحدث بلسان صريح ومباشر، محملا المجموعة الدولية مسؤولية انهيار الوضع الإنساني، مؤكدا عدم التوقف عن بذل كل الجهود والعودة بلا كلل ولا ملل إلى المجلس، لتبقى القضية الفلسطينية في الصدارة، فتطارد الحقيقة التاريخية كل من تلطخت أيديهم ومواقفهم بالدم الفلسطيني، إما مباشرة أو تواطؤا أو تخاذلا.
صوت الجزائر.. موقف لا يقبل مقايضة:
وقد أعلنت الجزائر منذ الأول بلسان رئيسها عبد المجيد تبون، أن القضية الفلسطينية وبالذات الوضع المأساوي في غزة، مدرجة ضمن أولويات العهدة الجزائرية بمجلس الأمن الدولي، حتى يسمع الأطراف كل الأطراف صوت المضطهدين، وأنين الجرحى والمكلومين، وهو موقف مبدئي ثابت لا يقبل المقايضة، يعرفه القاصي والداني، وواضح أن ما يجري في المنطقة يندرج في سياق مخطط كبير تقوده القوى المتحكمة بالقرار في الولايات المتحدة، وينفذه الكيان الصهيوني الذي يعتبر ثكنتها المتقدمة، موفرة له الحماية والدعم بكل الوسائل، بما في ذلك إسكات أي صوت في المنطقة قد يفكر في إعلان رفض للإبادة، وبالطبع يخدم المخطط الشيطاني، بعد الكشف عن قصة الميناء العائم الذي يتم تركيبه بسواحل غزة في فترة شهرين، عن أهداف جيو- استراتيجية خطيرة من شأنها أن تغيّر المنطقة برمتها، وحينها ستجد عدة دول نفسها أمام تحديات لن تقوى على رفعها، بالنظر للكلفة والتداعيات، فعين أمريكا عل الغاز في الإقليم الفلسطيني، بما فيه البحر وإنجاز قناة عبور توازي وتنافس قناة السويس المصرية.
التنسيق الأمني.. مسؤولية السلطة الفلسطينية:
غير أن الانتصار لن يكون في النهاية سوى للشعوب التي يقدم لها الشعب الفلسطيني في زمن وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء المفتوح، أروع البطولات في التشبث بالأرض، ورفض التهجير، وعدم الاستكانة للاحتلال الجبان، وهي عوامل ينبغي على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تراعيها في تشكيل الحكومة الجديدة، وعدم السقوط في مخاطر تجاوز تضحيات سكان غزة وإخوانهم في الضفة، وأن تكون على درجة عالية من المسؤولية التاريخية بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، والتنديد بالجرائم مهما كانت التضحيات، وإعلان التحلل من اتفاقيات أوسلو المشؤومة، التي تنكر لها الكيان نفسه، بل وترك الشارع في الضفة الغربية ينفجر كالبركان في وجه الكيان الصهيوني النازي، انتقاما لدماء الأطفال والنساء والشباب في غزة، وانتصارا لفلسطين التاريخ والمستقبل.