“بدأت المعضلة خلال ترميم الأحياء والحارات القديمة بمناسبة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية في 2015، فتعرض كثير من المعالم للتشويه بينما أوقف ترميم بعض الحارات بعد انتهاء التظاهرة”
تعدّ أزقة وحارات مدينة قسنطينة العتيقة، معالم ثقافية واجتماعية وتاريخية ما تزال تثير الباحثين وتستقطب السياح، فشوارع الأحياء العتيقة لمدينة الجسور المعلقة تنقل زوارها من عالم الحاضر للغوص في اعماق التاريخ، ما يثير الحنين في النفوس، إلا أن هذه الأحياء بدأت تعرف طريقها إلى الاندثار بسبب الإهمال واللامبالاة أحيانا، وأحيانا أخرى من خلال عمليات ترميم غير مدروس، منها ما أسند لهواة أو مقاولين ليس لهم علاقة بالبعد الحضاري والثقافي للمعالم الأثرية والتاريخية، وقد بدأت هذه المعضلة خلال ترميم الأحياء والحارات القديمة مثل “باب السويقة” بمناسبة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية التي أقيمت في 2015، حيث تعرض كثير من المعالم للتشويه وإزالة بعضها بداعي الترميم، بينما أوقف ترميم بعض الحارات مباشرة بعد انتهاء التظاهرة، لتصبح اليوم عرضة للنكران والإهمال والنسيان تواجه مختلف عوامل التلف، ولعل أهمها المدينة القديمة التي بدأ ينفرط عقدها بعدما صمدت عقودا طوال تتحدى عوامل الزمن، إلى أن هزمتها يد الإنسان.
معلم اثري مهدد بالزوال يحتاج لتدخل أعلى السلطات
تعتبر المدينة القديمة أهم مواقع مدينة قسنطينة، فهي تكتنز كثيرا من المعالم، وكل من يزور مدينة قسنطينة، تشده هذه أحياؤها العتيقة من خلال بنايتها المعقدة، وهندستها المعمارية المميزة، التي لا تزال صامدة بالرغم من مرور أكثر من خمسة قرون على تشيدها، فضلا عن شكلها المعماري والهندسي الذي يعد بحد ذاته تحفة نادرة، لاسيما وأن المدينة بنيت على حافة صخور شاهقة الطول وعلى حواف الجسور، وهو ما يعطيها اسم المدينة النائمة على سفح الصخور.
هذه الميزة الفريدة من نوعها أعطت لهذه المدينة العريقة منظرا يأسر الزائر، ويجعله يتأمل في طريقة انجازها وكيف استطاع البناة في ذلك الوقت أن يخرجوا من الصخور تحفة معمارية قلّ نظيرها في العالم، لكن المؤلم أن هذا المعلم الذي تعاقبت عليه حضارات عدة يكاد يتحول إلى مجرد أطلال وبعض اماكنه فضاء للنفايات، التي تكاد تمحى ذاكرتها من قسنطينة فتصبح منسية، بعد أن صارت بيوتها تتهاوى في كل لحظة في صمت وتندثر بل المدينة ككل مهددة بالانهيار في أي لحظة، في حين دق الخبراء المعماريون ناقوس الخطر بعد أن أصبح أكثر من خمس مئة بناية في المدينة العتيقة في الدائرة الحمراء ما يعني أنه يمكن ان تنهار في أي لحظة.
“العصر نيوز” في قلب المدينة النائمة على سفح الصخور
زارت “العصر نيوز” المدينة القديمة، بولاية قسنطينة، حيث كان أول باب صادفنا هو بوابة “سويقة “، هذا الحي العتيق، الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من خمس مئة سنة حسب الوثائق التاريخية وشهادة القلة المتبقية من سكانها، خاصة من كبار السن الذين ما تزال قلوبهم وذكرياتهم في الحي العتيق، ويحكي الكبار من الاجيال الاولى المتعاقبة نقلا عن الأجداد والآباء تفاصيل صفحات المدينة، حيث لكل حجر حكايته وكل رائحة من البيوت العتيقة عبقها، لها ألف حكاية وحكاية عن الذين مروا من هنا، ومن ميزة المدينة وبناياتها أنها مبنية بالطين والحجر الأزرق، وأزقتها ضيقة جدا، إذ يستحيل على السيارات المرور منها واستعمال مسالكها، وعلى زوار المدينة ترك سياراتهم خارج المدينة ويدخلون عالمها الساحر العتيق على الأقدام، ليتعرفوا على هذا الحي الشعبي العريق الذي ينقل زواره إلى زمن بعيد ليكتشفوا أنهم خرجوا من الحاضر في رحلة الى زمن الماضي الجميل.
وما تزال أرضية الحي تحافظ على الكثير من معالمها محافظة على هندستها الاصلية، فهي عبارة عن أحجار متلاصقة تحيل إلى المسالك القديمة المحملة بذكريات، وما يلفت الانتباه أيضا تلك الحنفيات القديمة، التي تشتغل بمضخات يدوية، وكانت في زمنها قمة التكنولوجيا، ما يؤكد أن المدينة القديمة في عصرها كانت تشكل حضارة كبيرة ومتطورة بحكم الأدوات التي لا تزال معالمها شاهدة على ذلك في أنحاء المدينة، حيث يعود تاريخها إلى عصور قديمة جدا، و تجدها وسط كل شارع في هذا الحي، لكن للأسف هذه الحنفيات آو المصبات المائية لم تسلم من الإهمال واللامبالاة مثلها مثل كثير من المعالم الأخرى، في أعرق مدينة بولاية سيرتا. بالإضافة إلى هذا يتميز “باب السويقة” بشوارعها الفريدة من نوعها التي تشبه المغارات، كما أنها تتوفر على عدة مداخل ومخارج، وإذا لم يرافقك دليل من السكان فيتوه الزائر وسط هذه الأزقة والشوارع المتشعبة والملتوية.
ترميم عشوائي وإهمال بعد تظاهرة “عاصمة الثقافة العربية“
في سنة 2015 أشرفت وزارة الثقافة على حدث كبير تمثل في تظاهرة “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية”، وقد دام التحضير لهذه التظاهرة شهورا عدة، والمناسبة كانت التظاهرة الدولية فرصة لترميم المدينة العتيقة وإعادة وهجها وجعلها قطبا سياحيا يمكن الاستفادة منه، لاسيما وأن ملاك السكنات رحّبوا ببرنامج الترميم ولم يمانعوا في جعل بيوتهم ومدينتهم معالم سياحية وثقافية، إلا أن الذي حدث كان عكس التوقعات، فبسبب الاعتماد على مقاولين ومختصين لا علاقة لهم بتاريخ المدينة وثقافة العمران تعرض كثير من المعالم للاندثار والاختفاء.
ومما كشفه لنا رئيس جمعية فن المعمار بقسنطينة، نور الدين خلفي، أنه تم اقتلاع بلاط بكامله يعود تاريخه إلى أكثر من خمس مئة سنة وتعويضه ببلاط آخر حديث بدلا من ترميم القديم والحفاظ عليه كجزء من الهوية المعمارية، ليس هذا وحسب، بل بعد انتهاء التظاهرة تركت المدينة كورشة مفتوحة دون اتمام أشغال عمليات الترميم، مما زاد من خطر توجه المدينة للزوال، جراء عوامل الطبيعة كالأمطار التي لها تأثير كبير على المواد الطينية التي شيدت بها هذه المدينة، فضلا عن عوامل الزمن والتآكل، ما دفع “خيّرين” من أهل المدينة من مهندسين مختصين لمناشدة السلطات أن تفتح لهم الباب وإشراكهم في إعادة بعث عمران المدينة من جديد بفضل تسخير خبرتهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
مهندسون وخبراء جاهزون لإنقاذ المدينة قبل فوات الأوان
وأكد رئيس جمعية فن المعمار بقسنطينة، نور الدين خلفي، في تصريح لـ” العصر نيوز” أن هيئته المكونة من مهندسين معماريين ذوي كفاءات فنية، “تنتظر الضوء الأخضر من السلطات العمومية المختصة من أجل المساهمة في تقديم مخططات هندسية من أجل المحافظة على مدينة قسنطينة وتراثها”.
ويضيف المتحدث، أن “واجهات مدينة الجسور المعلقة المتمثلة في، نهج “روت دو فرانس”، و”نهج 19 جوان” و”نهج العربي بن مهيدي”، وتعتبر هذه الشوارع واجهات قلب قسنطينة، غير أن كل شيء داخل هذه الأحياء تهدم أو يكاد، ما جعل مدينة قسنطينة برمتها مهددة لتتحول الى مدينة اشباح” مشيرا الى أن ” أن أصحاب السكنات الهشة في هذه الشوارع تم ترحيلهم إلى كل من الخروب، ماسينيسا، والمدينة الجديدة علي منجلي، ما جعل المدينة شبه مهجورة”.
غير أن المتحدث، افاد أنه “لا توجد عناية بهذه السكنات، لا من حيث الترميم أو إعادة بنائها، بدل ترحيل سكانها، محافظة على تاريخ المدينة العتيق “.
ويبقى الأمل في التفاتة السلطات العمومية المختصة، إلى “باب السويقة” التي لا تعد ذاكرة ولاية قسنطينة فقط، بل ذاكرة أمة، كما أن عديد الشخصيات ارتبطت أسماؤهم بهذه المدينة القديمة، سواء من خلال نشاطهم السياسي أو الثقافي والفكري، أو على خلفية ميلادهم بهذه المدينة التي تستنجد اليوم، فهي بحاجة إلى من يعيد لها الحياة مرة أخر قبل فوات الوقت.