يشهد عالم العمران تغيرات متسارعة بين اتساع مجال البناء الحديث تغذيه الحاجة لإشباع الطلب في السوق تقوده مشاريع الترقية العقارية من جهة وحتمية الحفاظ على الهوية العمرانية للمدن والأحياء بحيث يمكن حماية الإرث العمراني وإعادة تأهيله بلمسة عصرية مع توجيه المشاريع الجديدة إلى فضاءات شاغرة وفقا لنظرة التمدد والتعايش.
منطقة سطيف المترامية الأطراف عينة تستحق الوقف عندها فهي تحمل إرثا عمرانيا وتاريخا ونضاليا منسجما وتقدم صورة تثير تساؤلات وتتطلب حلولا عمرانية من خلال انفتاح اطراف المعادلة على بعضهم بحيث يصغي صاحب المشروع للمهندس ويستجيب المقاول للتوجيهات القائمة على دمج التاريخ في العصرنة فلا تضيع الهوية.
في لقاء مع مجموعة من المهندسين المعماريين من ولاية سطيف جرى حديث مستفيض عن دور المهندس المعماري في إنقاذ التراث المعماري المرتبط بتاريخ المدن كما في عاصمة الهضاب سطيف حيث أمكن المحافظة على عدد من المواقع العمرانية ذات الطابع التاريخي من خلال انجاز أعمال ترميم دقيقة (اقرب إلى عمليات جراحية) حافظت على هويتها.
من بين المواقع التي تم إنقاذها “قصر جيرو” بوسط مدينة سطيف وهو فيلا ضيافة تابعة للولاية توجد على بعد 100 متر تقريبا من عين الفوارة تم ترميمها من الأساس لتستعيد رونقها بعد أربع سنوات من العمل. بنيت هذه الفيلا في الفترة من 1896 إلى 1943 كإدارة محلية للتعليم ثم تحولت إلى سكنات لتصبح دارا للضيافة.
مكتب شنيتي لهندسة المعمارية تكفل رفقة عبد الباقي ومؤسسة الانجاز عبد المالك بالمهمة النبيلة. ويقول المهندس شنيتي أنه تم تعزيز البناية مع إزالة كل الأجزاء المتضررة مع تحويل الجزء العلوي المغلق إلى مطعم مفتوح على المدينة يطل على حديقة الأمير عبد القادر وتم كل هذا العمل بدون المساس بالطابع المعماري للبناية المتكونة من طابق ارضي وطابقين علويين.
أشغال احترافية أقرب لعمليات جراحية عمرانية
كلمة واحدة اجمع عليها أهل الاختصاص هي “أن تكون العلاقة حميمية بين أطراف المعادلة حتى يمر التيار وتصل الرسالة المعمارية بسلاسة ودقة بحيث يفهم المنجز المهندس والعكس صحيح”.
غير أن الإشكال القائم يتعلق بضرورة وجود تكامل مهني بين مكتب الدراسات ومقاولة الانجاز كقوة اقتراح بحيث يملك إطاراتها رصيدا متراكما من الخبرات في التعامل مع العمران القديم ويمكن أن تفيد ف انجاز أي مشروع له رسالة تاريخية. ومن ثمة لا ينبغي اعتبار المقاولة مجرد أداة انجاز وإنما الإصغاء إليها إذا أريد تحسين الأداء المعماري الذي يرتبط من حيث الجودة والإبداع بمدى حب المهنة وعدم اعتبار سوق العمران مجرد صفقات تجارية.
موقع آخر يقدم صورة ملموسة للاحترافية يتعلق بترميم ثانوية “محمد القيرواني” بمدينة سطيف بعد حمس سنوات من العمل بطريقة مركزة هي اقرب لجراحة معمارية. يعود تاريخ انجاز هذه الثانوية إلى سنة 1872 وقد تم الحفاظ على معالمها الأصلية ولا تزال رمزا من رموز مدينة سطيف.
بدأت أعمال الترميم بعد دراسة وتشخيص الموقع في خريف 2009 وأنجزت الأعمال الفنية تدريجيا بأيدي عمل جزائرية تعاملت مع البناية بحذر ولطف مع ضمان مواصلة المؤسسة التعليمية نشاطها التربوي بحيث لم يتم إزعاج التلاميذ في دراستهم فكان التحدي بعينه.
ولهذه الثانوية سجل تاريخي في الذاكرة الوطنية وهي من بين رموز المنطقة والجزائر فقد درس فيها كبار الشخصيات الوطنية فهي بحق خندق نضالي بامتياز.
ومن بين الأسماء البارزة التي زارت هذه الثانوية المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس حيث عبر يومها عن مشاعره قائلا “للبناية (ثانوية محمد القيرواني) روح”. كما زارها بنجامان ستورا والمجاهدة أني من البليدة. لذلك سطيف هي بحق كتاب تاريخي مفتوح فقد كانت موطنا للحركة الوطنية النضالية ضد الاحتلال الفرنسي.
الذاكرة .. الرقم الثابت العابر للأجيال
وتشير لوحة تذكارية تحمل أسماء 46 شهيدا ولا يزال البحث مستمرا عن أسماء أخرى درست في هذه الثانوية حيث تشبع اصحابها بالروح الوطنية .
ومن بينهم الشهيد عبد الحفيظ احدادن وهو من توجة (بجاية) وأول مهندس في العلوم النووية وقد سقط شهيدا بعد خيانة حيث اغتالته المخابرات الفرنسية بالمغرب سنة 1961 فقد انتقل الشهيد بأمر من قيادة الثورة إلى تشيكوسلوفاكيا سابقا للدراسة في 1953 وبعد التخرج توجه إلى فرنسا مواصلا النضال. كما درس في هذه الثانوية كاتب ياسين فهي فضاء للوطنية.
يقول شنيتي “حتى ينجح مشروع ترميم معماري ينبغي أن يكون للأطراف المهندس والمقاول وصاحب المشروع كفاءة فيتحقق التكامل من خلال تشبعهم من قيمة الشغف والقناعة بالهدف فيتم انجاز عمل كامل ومتقن ودقيق”.
ولا يزال وسط مدينة سطيف يشهد أشغال تجديد معماري لكن للأسف يتم غالبه خارج معايير الحفاظ على النسيج المعماري المحلي فبدل أن يضفي عليه رونقا فانه يشوه المنظر.
بهذا الخصوص تجدر الإشارة إلى موقع “فندق فرنسا” حيث سقط الشهيد سعال بوزيد في 8 ماي 1945 فهو لا يزال عرضة للإهمال واللامبالاة وهو معلم تاريخي يحتاج ويستحق التكفل به بعناية. وكذلك، المسجد العتيق فهو موقع ديني تاريخي شهد توسعة في فترة الثمانينات لكن الأعمال التي شملته شوهت طابعه المعماري الأصلي.
والمعضلة الكبرى تكمن في مشاريع البناء للخواص التي تنجز على أنقاض سكنات قديمة تقام عليها بنايات جديدة خارج معايير خصوصية المدينة وطابعها المعماري الأصلي وهنا يكمن ضرورة تدخل السلطات المحلية من اجل حماية الطابع الأصلي للنسيج المعماري كما هو بالنسبة لحي “شومينو” العتيق و”بومارشي” حيث تحولت البنيات من نمط طابق ارضي مع طابقين علويين إلى عمارات شاهقة أفقدت المدينة وإحياءها صورتها الأصلية. كان العصرنة تقضي على الهوية وتفرغ العمران من ذاكرته وهو ما ينبغي الانتباه إليه على مستوى جميع المدن والأحياء التي تكتنز إرثا تاريخيا وتحمل بصمات أحداث ورجال ونساء تاريخيين مروا منها.
سعيد بن عياد