حسناء زكري
شهر رمضان، هو شهر الخير والبركات والغفران، شهر الصيام والقيام والتهجد والتراحم والتواصل والتسامح، شهر التقوى والصبر، هو الشهر الوحيد الذي حظي بصفة الكرم والإحسان، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «أيها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله». هو شهر تمتلئ فيه المساجد وتنهمر الدموع وترتفع الأيدي بكل خشوع، شهر تتضاعف فيه الأجور، فنحن الأُمّة التي منحها رب العالمين ما لم يمنحه لأي أُمّة أخرى، وهب لنا سبحانه هذا الشهر المبارك العظيم الذي أنزل فيه كتابه الكريم، فتفتح لنا فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب جهنم وتصفد الشياطين. شهر رمضان هو شهر القرآن والإحسان، وشهر الذكر والصبر، لذا ينبغي على كلّ مسلم الاهتمام به والمبالغة في إكرامه، لأنّه ضيف الله تعالى على خلقه. لذلك يحتاج المسلم إلى الهمة العالية التي تدفعه إلى الإفادة من رمضان وما فيه من خير عميم، وثواب جزيل. وقد جعل الله تعالى للصيام فوائد اجتماعية كثيرة كشعور الناس بأنّهم أُمّة واحدة يأكلون في وقت واحد، ويصومون في وقت واحد، ويشعر الغني بنعمة الله ويعطف على الفقير، ويقلل من مزالق الشيطان لابن آدم، وفيه تقوى الله، وتقوى الله تقوي الأواصر بين أفراد المجتمع. وينبغي للصائم أن يكثر من الطاعات، ويجتنب جميع المنهيات، ويجب عليه المحافظة على الواجبات والبعد عن المحرمات، فيصلي الصلوات في أوقاتها، ويترك الكذب والغيبة والغش، وكلّ قول أو فعل محرم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه».
امتحان واختبار
إنّ الصوم امتحان واختبار لصدق الإنسان مع الله تعالى، وكشف لعلاقته به، وحبه له، ورغبته في الإخلاص له، بردع النفس عن الملذات والشهوات، وتغلب حب الله والاستجابة لإرادته على حب الإنسان لذاته. شهر رمضان شهر كريم وهو واحة من واحات التفكر والتدبير والعبادة، وهو محطة يخلد فيها الإنسان إلى الراحة من صخب الدنيا وحبها والجري وراءها، ليتجه إلى الله تعالى بكل أحاسيسه وجوارحه ليتزود بالتقوى والبركة. أيام شهر رمضان أيام لو علم الإنسان ما مدى أهميتها لما أهملها ولجعلها خير الأيام في تلك السنة، أيام يقضيها بالاستغفار والندم والتوبة والدعاء إلى الله بقلب صافٍ نقي ونية صادقة، تلك أيام لا تصفها الكلمات ولا تعبر عنها الجمل. في الصوم ينهانا المنهج الرباني عن أشياء ويأمرنا بأشياء أخرى، فعن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ».
إنّ شهر رمضان معهد نتربى فيه على الأخلاق الفاضلة وننتهي عن الرذائل، فمن خلال هذه المثل والقيم إن التزم بها الصائم يصبح شخصية مؤمنة مثالية ملتزمة وقائداً منتصراً وتصبح الأُمّة الإسلامية أُمّة ملتزمة وبالتالي تتوفق إلى رضا الله وعطفه عليها.
الصوم كتجربة في الإخلاص والتقوى
نحن نعمل العمل الصالح ونبقى وجلين خائفين من أنّ أعمالنا التي ربّما لا تكون خالصة مخلصة لله، وإنّ بعضها قد يشوبه المنّ أو الرِّياء أو إرادة غير الله، فيأتي الصوم كونه عبادة مُضمَرة أو مستترة ليُعلِّمنا الإخلاص في العمل، وكيف نجتهد في تنمية أعمالنا لتكون خالصة لوجه الله وطلباً لمرضاته. فعلّة فرض الصيام وسببه، فالصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، أي اختبار لمدى صدقهم في العلاقة مع الله والطاعة لأوامره والامتثال أو الاستجابة لما يُريد. الصوم كتجربة في الإخلاص يمكن أن يتسع لإخلاصات أخرى كثيرة، بمعنى أن يكون كلّ عمل نتقرّب به إلى الله منطوياً أو متوافراً على شرط السلامة من حب التظاهر والافتخار والارتفاع في أعين الناس، أو تصيُّد الدنيويّ بعملٍ أخرويّ.
فوائد الصيام الروحية
من الفوائد الروحية للصوم انه يعود الصبر ويقوي عليه ويعلم ضبط النفس ويساعد عليه ويوجد في النفس ملكة التقوى ويربيها وبخاصة التقوى التي هي الغاية البارزة من الصوم في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون». ومن الفوائد الاجتماعية للصوم انه يعود الامة النظام والاتحاد وحب العدل والمساواة ويكون في المؤمنين عاطفة الرحمة وخلق الاحسان كما يصون المجتمع من الشرور والمفاسد.
ومن الفوائد الصحية للصيام أنه يطهر الامعاء ويصلح المعدة وينظف البدن من الفضلات والرواسب ويخفف من وطأة السمنة وثقل البطن بالشحم وفي الاثر “صوموا تصحوا”.
وصيام رمضان واجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه”.
ولرمضان فضائل عظيمة ومزايا عديدة لم تكن لغيره من الشهورفقد قال صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
فتح مكة..واقعة فاصلة في تاريخ الإسلام
فتح مكة المكرمة حدث عظيم من الوقائع الفاصلة في تاريخ الإسلام التي أعز الله فيها دينه وأذل أعداءه، فبهذا الفتح خسر الكفر أهم معاقله وحماته في بلاد العرب، وبعده دخل الناس في دين الله أفواجا وأصبحت مكة قلعة منيعة لدين التوحيد والهداية.
سبب الفتح
كان من بنود صلح الحديبية الموقع سنة 6 هجرية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، أن من أراد الدخول في حلف الرسول وعهده دخل فيه، ومن أراد الدخول في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت قبيلة “خزاعة” في عهد الرسول الأمين ودخلت “بنو بكر” في عهد قريش.
كانت بين هاتين القبيلتين حروب مستمرة فأراد “بنو بكر” أن ينالوا من “خزاعة” ثأرا قديما لهم فأغاروا عليهم ليلا وقتلوا منهم جماعة، وأعانت قريش في الخفاء “بني بكر” بالسلاح والرجال خارقة بذلك بنود الصلح مع الرسول الأمين، فأرسلت “خزاعة” إليه تخبره بالأمر وأن قريشا غدرت بحلفائه.
أمر الرسول المسلمين بالاستعداد للخروج إلى مكة نصرة لحلفائهم خزاعة، وأوصى بكتم الأمر عن قريش حتى يباغتها جيش المسلمين.
أدركت قريش خطورة ما أقدمت عليه وأنها دخلت في ورطة، فسافر زعيمها أبو سفيان بن حرب إلى المدينة المنورة لعلاج المشكلة وتجديد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه وجد أن فرصة ذلك فاتت لأن الرسول عزم على الغزو وأمر بالتجهز له.
سير الأحداث
في يوم 10 رمضان سنة 8 هجرية خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة لفتح مكة بجيش قوامه عشرة آلاف جندي من أصحابه، وطلب من القبائل المسلمة حول المدينة (أسلم، ومزينة، وجهينة، وغفار، وسليم) الخروج معه فلحق به منهم ألفا رجل، فصار مجموع جيش المسلمين 12 ألف جندي.
سار الرسول -والمسلمون معه صائمون- فلما وصل إلى مكان اسمه “الجحفة” لقيه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان قد خرج بأهله وعياله مهاجرا إلى المدينة، فاصطحبه في طريقه إلى مكة.
فلما وصلوا وادي “مَرّ الظهران” القريب من مكة، ركب العباس بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم البيضاء وانطلق يبحث عن أحد يخبره بمقدم جيش المسلمين لفتح مكة، ليبلغ قريشا بذلك يحثهم على طلب الأمان من الرسول قبل أن يدخلها عليهم محاربا بقوة السلاح.
في هذه اللحظات كان أبو سفيان خارج مكة يتجسس الأخبار فلقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه، ولما دخلا عليه قال الرسول الأمين مخاطبا أبا سفيان: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟… ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟”.
أعلن أبو سفيان إسلامه، فقال العباس: “يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا”، فقال الرسول: “نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن”.
غادر جيش المسلمين “مرّ الظهران” متوجها إلى مكة، فمرت على أبي سفيان كتائب جيشهم الواحدة تلو الأخرى مما أثار الرعب في نفسه، فاقتنع بأن خسارة قريش ستكون محققة إن هي حاولت منع المسلمين من دخول مكة.
أسرع أبو سفيان إلى قومه صارخا بأعلى صوته: “يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن”، فتفرق الناس واحتموا بدورهم وبالمسجد الحرام.
ولما وصل الرسول الكريم إلى ذي طوى وزع جيشه إلى ثلاثة أقسام: قسم أمّر عليه خالد بن الوليد وأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقسم أمّر عليه الزبير بن العوام -ومعه راية النبي محمد- وأمره أن يدخل مكة من أعلاها، وقسم أمّر عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره أن يسلك بطن الوادي. ووجّه الرسول أمراءَ الجيش الثلاثة بأن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
دخل الجيش الإسلامي مكة ولم يواجه جيشا محاربا من أهلها باستثناء اشتباك محدود وقع بين جيش خالد بن الوليد ومجموعة قليلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل رفضت الأمان وأرادت التصدي للمسلمين بالقوة، وقتل في هذا الاشتباك أفراد قلائل من الجانبين، ثم انتهى بفرار فلول مجموعة قريش إلى بيوتهم ليأمنوا من القتل.
دخل الرسول مكة من أعلاها وسار -والمسلمون بين يديه ومن خلفه وحوله- حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت، وكانت في يده قوس يطعن بها الأصنام المنصوبة حول الكعبة (360 صنما) وهو يردد قوله تعالى: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” (الإسراء، الآية: 81)، “قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد” (سـبأ، الآية: 49)، فتخر الأصنام ساقطة على وجوهها.
فلما أكمل طوافه دعا سادن الكعبة عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاحها وأمر بها ففتحت، فدخلها وأمر بالصور التي كانت فيها فمحيت، ثم دار في نواحيها وصلى داخلها، ثم خرج منها وأعاد مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأمر أن يبقى في عائلته أبد الدهر.
تجمعت رجالات قريش منتظرين ما سيفعله بهم الرسول الأمين، فتوجه إليهم وقال: “يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟”، فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: “فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: “لا تثريب عليكم اليوم” (يوسف، الآية: 92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن للصلاة على ظهر الكعبة وقريش تسمع.
وفي اليوم التالي لفتحه مكة ألقى النبي محمد صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها بعض معالم الدين وحرمة بلده الأمين مكة، ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة، وأقام بها بعد ذلك 19 يوما وضح لهم فيها معالم الإسلام وتعاليمه ورتب فيها الشؤون الإدارة للمدينة.