أدعو إلى صحافة متخصصة في عالم المسرح وعدم الاكتفاء بعبارة “برافو”
حاوره: سعيد بن عياد
في زيارة قادتني قبل أيام إلى مدينة قسنطينة التقيت بالباحث في تاريخ مسرح قسنطينة الجهوي الأستاذ محمد غرناوط ليرافقني في جولة عبر أحياء مدينة الجسور المعلقة ومواقعها الثقافية من بينها قاعة المسرح الذي يحمل اسم الفنان الكبير ابن المدينة محمد الطاهر الفرقاني، الذي لا يزال يقاوم التغيّرات على أكثر من صعيد. وللتعريف اكثر بالخلفية التاريخية لمسرح قسنطينة والدور البارز في تجميع ذاكرته منذ تأسيسه في 1883 اختتمت الجولة بلقاء صحفي بقاعة العرض حيث أجاب محمد غرناوط عن أسئلة تنطلق من الغوص في تاريخ هذا المرفق الثقافي إلى مكانة المسرح في الحياة الاجتماعية والتحديات التي تواجهه مرورا بثمار أبحاث أنجزها تكللت بكتب تقدم للمهتم والقارئ مواد دقيقة تمت رقمنتها بما يبسط الوصول إليها خاصة من طلبة أبو الفنون. محدثنا يعبر عن غبطته بانجازه عملا علميا حول مواقع تفتخر به الجزائر مشيرا أن مسرح قسنطينة معلم من طراز فريد في إفريقيا ليقترح أن تقوم الوزارة الوصية بتقديم ملف لتصنيفه معلما عالميا مؤكدا جاهزيته لتقديم بطاقة شاملة هي ثمرة 10سنوات من البحث تفيد هذا الاقتراح وفيما يلي الحوار كاملا:
العصر نيوز: لو تحدثنا أستاذ غرناوط عن السر وراء صمود بناية مسرح قسنطينة بالرغم من عمره وتسارع التغيرات في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية؟
محمد غرناوظ: بناية مسرح قسنطينة تعود إلى القرن 19 وهي ذات طابع ايطالي. الجزائر تفتخر بوجود هذه التحفة المعمارية التي تعتبر تقريبا الوحيدة في شكلها وخصوصيتها على مستوى إفريقيا. هو من طراز معماري “نيوكلاسيكي” كما يلاحظ من خلال واجهة المبنى والنمط الايطالي داخله. ومن بين خصوصياته تصميم القاعة على شكل “حدوة حصان” بحيث يكون توزيع الصوت خلال العرض المسرحي بطريقة جيدة فيصل بوضوح إلى كافة الأماكن بدون استخدام مكبر الصوت. يحتفظ هذا المعلم بثريا تعود إلى 1883 سنة تدشين مسرح قسنطينة في 6 أكتوبر. كانت في الأول تشتغل بالغاز ثم واكبت التطور التقني دون أن تفقد شيئا من صورتها الأصلية (تخضع لأعمال الصيانة الدورية). خاصية أخرى هي الجدارية الموجودة في قبة المسرح فهي بحق تحفة فنية. هذا المسرح لا يزال يحافظ على المكان الخاص (الفراغ) بالجوق الموسيقي بطاقة استيعاب 27 فنانا. كذلك نظام التجهيز الميكانيكي للديكور لا يزال قابلا للاستخدام أفقيا وعموديا منذ1883.
في الأول كانت طاقة استيعاب المسرح 820 مقعد وتدريجيا بدأت تتقلص إلى أن أصبحت 430 مقعد حاليا في شكل أرائك مريحة كما كان نظام التامين يتطور لحماية البناية. وتتميز قاعة المسرح بمستوى ارضي يوازي الركح مع 3 طوابق ومخادع من طراز ايطالي قديم (أوبرا ايطاليا).
حقيقة لا يزال هذا التراث يحتفظ بطابعه الأصلي وهو مفخرة وشرف للطاقم القائم على إدارة وصيانة هذا المرفق الثقافي المميّز الذي يتربع على موقع ملائم بوسط المدينة ليحرس بذلك هويتها أمام التحولات العديدة.
وماذا عن الرُكح، القلب النابض لهذا المسرح:
رُكح مسرح قسنطينة الجهوي شهد بدوره استقبال عدة وجوه فنية عالمية على مر الزمن خاصة من المسرح العربي بدءا بالفرقة المصرية لجورج الأبيض في 1921 وفرقة المسرح القومي المصري بقيادة يوسف وهبي ابتداء من 1948 إلى 1951/1952 مع وجوه فنية رائدة مثل أمينة رزق وعمر الحريري.
في سنتي 1950/1951 استقبل المطرب العربي الكبير فريد الأطرش وسامية جمال كما مرت من هنا أيضا فاطمة رشدي في 1932 وكانت تدعى (سارة برنار دو لوريون).
كما نشطت فرق تونسية عدة عروض مسرحية بهذا المكان في 1913/1914 مثل فرقة الحداد وغيرها وهنا اذكر الفنانة التونسية شافية رشدي التي كان لها نشاط في هذا المسرح خلال الثلاثينيات والأربعينيات.
وبالنسبة للفرق المسرحية الجزائرية فحصة الأسد تعود إلى محيي الدين بشطارزي ذائع الصيت وفرقة محمد التوري من البليدة، عبد الحليم رايس، مفدي زكريا، مصطفى كاتب (المسرح الجزائري)، كاكي بقي 11 يوما بقسنطينة بالإضافة إلى الوجوه القسنطينية البارزة على غرار حسن بن الشيخ لفقون، حاج سماعين محمد الصغير، طواش محمد الصالح، قاسي القسنطيني، عاشق يوسف عبد الرحمان، محمد الصالح بن صباغ والقائمة طويلة…
كما نذكر فرقًا موسيقية شهيرة نشّطت مواعيد فنية أمتعت جمهور هذه القلعة الثقافية مثل فرقة الفرقاني، الزواوي مخلوف، عمر بن مالك، النجمة القطبية تحت قيادة عبد الرحمان بن شريف.
وبعد استرجاع السيادة الوطنية حافظ مسرح مدينة الجسور المعلقة على مساره الفني بالرغم من تغيّر نمط التسيير بحيث في 1962/1963 كان مسرحا بلديا ومن 1963 إلى 1970 أصبح بطابع مسرح وطني جزائري قسنطينة تحت مركزية المسرح الوطني الجزائري وفي 1974 بعد اعتماد لا مركزية المسارح أصبح مؤسسة بتسيير مشترك تحت إدارة سيد احمد أقومي الذي كان حينها يشرف على تسيير مسرح عنابة وقسنطينة الجهوي في آن واحد باسم TRAC. وفي عام 1976 تحول إلى المسرح الجهوي لمدينة قسنطينة ومذاك لا يزال ينشط بهذا الاسم إلى اليوم.
ومن أهم مراحل الصيانة لهذا المعلم الثقافي أشير إلى مرحلة 1973/1974 ولكن أكبر عملية صيانة تلك التي تمت خلال الفترة 1999/2000 تلتها عملية أخرى بمناسبة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية وتشمل الصيانة كافة الجوانب.
مع كل هذا الرصيد التاريخي ما هو الدور الذي يؤديه مسرح قسنطينة محليا؟
ينبغي التوضيح أن هناك دور خاص بالمتلقي ودور خاص بالفنان. بالنسبة للفنان يضمن استمرارية النشاط والإبداع ومنه عمل التواصل في مجال التكوين والاحتكاك بالفئة الشبانية. حاليا نلاحظ تقريبا اختفاء “الوجوه القديمة” غير أن التواصل سمح للشباب بمواصلة الأداء المسرحي والفني. اقصد توجد حركية لأن العمل الفني يختلف باختلاف الأجيال والأزمنة والاحتياجات والاهتمام حتى وصلنا علم الخيال للأطفال والحاسوب ومواكبة التطور التكنولوجي مثل مسرحية “المكوك الفضائي”.
وبالنسبة للمتلقي (الجمهور) فقد تغيّر أيضا، بعد أن كان يهتم بالقضايا الاجتماعية والسياسية يلاحظ حاليا أن هناك اهتمامات بالتقنيات الحديثة ومسائل الشباب وهذا تغيّر طبيعي في المجتمع.
يبقى أن تكون نواة تسهر على حمل هذه الرسالة وتتمثل في الشخص الذي يهتم باللحظة المعاشة لمواكبة العصر.
ألا تعتقد أن المسرح مطالب بالحفاظ على امتداده نحو المجتمع بمختلف الفئات التي تشكل نسيجه؟
لا بد من حركية تواكب تطور المجتمع والإصغاء إلى احتياجاته وتطلعاته والعمل على تلبيتها من خلال أعمال مسرحية من أجل الحفاظ على الإقبال كما كان عليه في الماضي، حينما كان المسرح يفهم المجتمع، لذلك من المهم وجود أناس يهتمون بمواضيع المسرح.
ألاحظ، مقارنة بالماضي، وجود نقص في الاعتناء بمجال المسرح (أبو الفنون)، فلما أرى مسرحا يبرمج تقديم بالعرض الشرفي لإنتاجه الجديد خلال شهر أوت (الحرارة 45 درجة) أقول إن الاعتناء بالمسرح غير موجود. أتحدث هنا عن مفهوم الموسم المسرحي، الذي يعد مفقودا تقريبا ما عدا لدى بعض المسارح مثل المسرح الوطني الجزائري الذي لديه تقاليد يحافظ عليها مثل تنظيم ندوة صحفية في شهر سبتمبر يعلن من خلالها عن الموسم المسرحي. المفروض في شهر أوت يفتح المجال للمهرجانات وليس لبرامج المسرح كما تخصص فترات الصيف لأعمال الصيانة خاصة على مستوى الخشبة وما حولها.
لا بد، كما أتصور الأمر، من بلورة برامج للمسارح أثناء الدخول الاجتماعي الجديد مع التقيد بظرف ومني محدد كما لا نغفل مسألة التوزيع الذي يكتسي أهمية بالغة، حيث لدينا 19 مسرحا عبر التراب الوطني وبإمكانها أن تشتغل بفضل التحكم في التوزيع طيلة 5 أشهر بلا انقطاع (كل نهاية أسبوع).
وحتى إذا كان التبرير اليوم في الميزانية فلماذا لا يتم اللجوء إلى آلية التمويل الاشهاري (سبونسور) عبر جذب اهتمام المؤسسات الاقتصادية فيمكنها من خلال الانفتاح على الثقافة أن تروّج لمنتجاتها عبر المسرح.
ملاحظة أخرى جديرة بالتوقف عندها، لدينا نقص فادح في الصحافة المتخصصة في عالم المسرح فهي تكاد نكون منعدمة فنلاحظ الاهتمام فقط بالبطاقة الفنية للمسرحية دون الغوص في التحليل الصحفي الجاد الذي يشمل كل فروع العمل الفني من إخراج، تمثيل، ديكور، إضاءة، موسيقى وغيرها.
لذلك أدعو إلى صحافة متخصصة في أعمال المسرح كما كان في السبعينات والثمانينات وعدم الاكتفاء بإطلاق عبارة “برافو” التي يثار سؤال حول معناها. الحاجة اليوم إلى مسرح بناء وجاد للارتقاء بابي الفنون والثقافة عامة.
غير أن النقطة الايجابية التي تستحق الذكر، هناك عدة مسارح فتحت أبوابها للتكوين في مختلف الفنون كما هو الأمر في مسرح قسنطينة حيث توجد مدرسة للتكوين في المسرح تشتغل للعام الثالث تواليا وقد تخرجت دفعتان (مسرح الطفل والعرائس)بفضل الحرص على هذا المسار الذي يضمن التواصل والتجديد.
التأريخ للمسرح جانب حيوي للحفاظ على ثروة لامادية لها ثقلها في الذاكرة الوطنية، حدثنا عن تجربتك في البحث وتقفي اثر مسرح قسنطينة؟
الحقيقة التأريخ الجاد للمسرح ناقص والسبب عدم توفر الأرشيف، لان كل الأرشيف المتعلق بالحقبة الاستعمارية قد تم ترحيله إلى فرنسا.
نأمل أن تكون عمليات لاسترجاعه فالمفروض أن تبادر السلطات المعنية بالثقافة بالمطالبة باسترجاع أرشيف المسرح الجزائري وهو غني جدا بالأعمال والممثلين، وهذا أمر لا اعتقد أنه مكلف وليست فيه ممنوعات فقد يحقق الاهتمام بأرشيف المسرح نتائج.
على مستواي الشخصي فقد ألفت كتابا أول خاص بذاكرة مسرح قسنطينة من 1974 إلى 2014 سنة صدوره وحاليا يوجد كتاب ثان تحت الطبع يتناول ذاكرة مسرح قسنطينة خلال الفترة 1883 إلى 1962 وقد تطلب مني هذا العمل البحثي 7 سنوات من الجهد المتواصل بما في ذلك التنقل إلى فرنسا من أجل جمع البيانات والمعلومات الموثقة وأملي أن يصدر خلال شهر نوفمبر المقبل.
هذه الثمرة تمثل عملا علميا من أجل المساهمة في تصحيح بعض المفاهيم حول نشاط المسرح العربي في قسنطينة وأدعو المهتمين للاطلاع على هذا الكتاب المرجعي.
لدي عمل آخر في طور الانجاز هو ذاكرة مسرح قسنطينة من 1962 إلى 1973 وبالموازاة اشتغل على تأليف كتاب جميل خاص ببناية مسرح قسنطينة والذي يتضمن كافة التفاصيل التاريخية للبناية كموقع عمراني عابر للزمن.
وبهذا أكون قد أتممت البحث في ذاكرة مسرح قسنطينة من سنة 1883 إلى اليوم.
للتوضيح يوجد كتاب يتمّم الكتاب الأول (1974/2014) يغطي العشرية من 2014 إلى 2024 وموعده مع القراء العام المقبل بحيث يواكب جميع الأعمال المسرحية التي انجرت خلال هذه الفترة.
مع كل هذا الزخم من البحث وفي زمن التكنولوجيات الجديدة هل تفكر في رقمنة هذا الرصيد ليصل بيسر للجمهور؟
لقد فكرت في إدراج كل هذا العمل في الفضاء الرقمي وبالتالي كل ما جمعته من وثائق وصور هو مرقمن وكذلك النصوص والبطاقات الفنية للأعمال المسرحية ومقالات الصحف.
والآن السؤال كيف نضع هذه الثروة ذات القيمة المضافة تحت تصرف الطلبة خاصة بمعهد الفنون بجامعة قسنطينة 3 الذي يمكنه أن يستفيد من هذا الكنز وهذا يكون إما عن طريق مسرح قسنطينة أو أرشيف الولاية لإرساء متحف رقمي شامل لمسرح قسنطينة.